مقالات

الذكاء الاصطناعي التوليدي.. بين وهم الحياد وخطر انهيار المعرفة

أداة للهيمنة الثقافية وتهميش المعارف الأصلية

حذر تحقيق تقني نشرته صحيفة “الجارديان” البريطانية من نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي(GenAI)، التي يعتمد عليها ملايين المستخدمين لفهم العالم، مؤكداً أنها بعيدة كل البعد عن الحيادية وهي تُهدد بتقويض تنوع المعرفة وانهيارها.

وأوضح التحقيق الذي حمل عنوان “ما لا يعرفه الذكاء الاصطناعي: قد نكون سبباً في انهيار المعرفة العالمي” أن هذه النماذج تعطي الأولوية لطرق المعرفة السائدة – عادةً الغربية والمؤسسية – بينما تهمّش البدائل، خاصة تلك المتجذرة في الثقافات واللغات الأقل حضوراً في عالم الحوسبة. هذا الانحياز، بحسب الكاتب، يهدد بمحو أنظمة الفهم التي تطورت عبر قرون، ويقطع صلة الأجيال بكنوز غزيرة من البصيرة والحكمة لم تُشفَّر يوماً لكنها لا تزال تشكل سُبُلًا إنسانيةً أساسيةً للمعرفة”.

ولفت الكاتب إلى الأسباب التقنية لنشوء هذه التفاوتات داخل النماذج، مبيناً أن المشكلة أعمق بكثير من مجرد فجوات في بيانات التدريب إذ أن برامج الماجستير في القانون، وهو هنا يقصد روبوتات المحادثة المتقدمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي،” تميل بحكم تصميمها إلى إعادة إنتاج وتعزيز الأفكار الأكثر شيوعاً إحصائياً، مما يخلق حلقة تغذية راجعة تُضيّق نطاق المعرفة البشرية المتاحة”.

الذكاء الاصطناعي التوليدي وتضخيم النمط

للتوضيح، ضرب الكاتب مثالًا بسيطاً: إذا وردت كلمة “بيتزا” في بيانات التدريب أكثر من “برياني”، فإن النموذج سيعيد إنتاج البيتزا كطعام مفضل بشكل مبالغ فيه، بينما يتجاهل البرياني تماماً .. هذه الظاهرة تُعرف بـ “تضخيم النمط”، وتكشف أن النماذج لا تعكس الواقع كما هو، بل تُضخّم الأكثر شيوعاً وتُهمّش الأقل حضوراً.

وقال: عند سؤال “ما هو طعامك المفضل؟”، من المرجح أن يجيب النموذج بـ “بيتزا” لأن هذا الارتباط أكثر بروزاً إحصائياً.

وللتأكيد، استعاد الكاتب تجربة شخصية حين شُخِّص والده بورم في لسانه قبل سنوات، لتبدأ رحلة البحث عن العلاج بين خيارين متناقضين: الجراحة التي أوصى بها الأطباء وأصرت عليها شقيقته الكبرى الطبيبة المتخصصة في الطب الغربي من جهة، وإصرار والديه على التمسك بالعلاجات التقليدية التي عرفوها في قريتهم بجنوب تاميل نادو جنوب الهند من جهة أخرى، حيث كان الكاتب نفسه هو الوسيط المعتاد بين الطرفين، فلجأ إلى الإنترنت ليجد الدعم لخيار الجراحة، بينما والده ظلّ متمسكًا سراً بزيوته وأعشابه القديمة.

والمفاجأة كانت أن الورم بدأ يتقلص تدريجياً حتى اختفى، مانحاً والده حق التفاخر بفعالية الطب التقليدي.. هذه التجربة لم تكن مجرد قصة عائلية، بل تحولت لاحقًا إلى نقطة تأمل عميقة في علاقة الكاتب بالمعرفة، الإنترنت، والذكاء الاصطناعي الذي يهدد بتكريس فجوات معرفية عالمية حسب قوله.

كما تطرق الكاتب إلى ملاحظات يومية من واقع عمله تعكس حقيقة أن الكثير من المعارف المحلية الثمينة تضيع لأنها غير موثقة وتنتقل شفهياً فقط، مثل محاولات إحياء تقنيات البناء التقليدية أو إدارة المياه المجتمعية في بنغالورو، حيث تلاشت خبرات الأجيال مع رحيل كبار السن تاركة فراغاً معرفياً، مضيفاً أن هذه المعرفة غائبة في الغالب عن الفضاءات الرقمية، ناهيك عن أنظمة الذكاء الاصطناعي.

الهيمنة الثقافية عند الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي

الهيمنة الثقافية في الذكاء الاصطناعي التوليدي

ورأى الكاتب أن هذا الفقد ليس مجرد صدفة، بل نتيجة هيمنة معرفية رسّختها المؤسسات الغربية عبر التاريخ، مستشهداً بفكرة الهيمنة الثقافية التي طورها الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي”والذي جادل بأن الحفاظ على السلطة لا يتم فقط من خلال القوة أو السيطرة الاقتصادية، بل أيضاً من خلال تشكيل المعايير الثقافية والمعتقدات اليومية”.

وبين أن “المناهج المعرفية المتجذرة في التقاليد الغربية أصبحت مع مرور الوقت موضوعية وعالمية، وأدى ذلك إلى تطبيع المعرفة الغربية كمعيار، مما أدى إلى طمس القوى التاريخية والسياسية التي مكّنت من صعودها”، موضحاً أن مؤسسات مثل المدارس والهيئات العلمية ومنظمات التنمية الدولية ساهمت في ترسيخ هذه الهيمنة.

وبينما أصبحت المعرفة الغربية “معياراً عالمياً”جرى تهميش المعارف الأصلية التي كانت أكثر ارتباطاً بالبيئة والمجتمع، لينبه الكاتب من مخاطرة تثبيت هذا التفاوت بشكل دائم مع صعود الذكاء الاصطناعي الذي يتغذى على بيانات رقمية ناقصة.

الذكاء الاصطناعي التوليدي.. بين وهم الحياد وخطر انهيار المعرفة
الذكاء الخارق الموجّه للأرباح

أعاد الكاتب التركيز على أن نماذج الذكاء الاصطناعي لا تعكس الواقع كما هو، بل تُضخّم الأكثر شيوعاً وتُهمّش ما هو أقل حضوراً، تماماً كما يحدث حين يُعاد إنتاج البيتزا أكثر من حصتها بينما يختفي البرياني من المشهد، لافتاً إلى أنه مع إضافة التغذية الراجعة البشرية والضغوط التجارية، تُرسَّخ قيم مبتكري هذه النماذج ورؤاهم، فيُصبح “الذكاء الخارق” مصمماً لخدمة المحترفين الناطقين بالإنجليزية، بينما يتعثر في سياقات أخرى لا تُترجم إلى أرباح.

ويقول الكاتب في هذا الصدد: اسأل ChatGPT عن موضوع مثير للجدل، وستحصل على ردّ دبلوماسي يبدو وكأنه من إعداد لجنة من المحامين وخبراء الموارد البشرية الذين يتوقون لإرضائك.

وتابع: اسأل Grok، روبوت الدردشة الذكي الخاص بـ X نفس السؤال، وقد تحصل على نكتة ساخرة تليها وجهة نظر سياسية، قد تتناسب تماماً مع حفل عشاء أحد مليارديرات التكنولوجيا.

وأضاف الكاتب: تُضيف الضغوط التجارية طبقةً أخرى تماماً، إذ يُصبح المستخدمون الأكثر ربحاً – وهم المحترفون الناطقون باللغة الإنجليزية المستعدون لدفع 20-200 دولار أمريكي شهرياً لاشتراكات الذكاء الاصطناعي المتميزة وهو النموذجَ الضمني لـ”الذكاء الخارق”، مبيناً ان هذه النماذج تتفوق في إعداد التقارير الفصلية، والبرمجة بلغات وادي السيليكون المُفضّلة، وصياغة رسائل بريد إلكتروني تبدو مُراعيةً للتسلسلات الهرمية للشركات الغربية، في الوقت نفسه، تتعثر في سياقات ثقافية لا تُترجم إلى أرباح فصلية.

الذكاء الاصطناعي التوليدي.. بين وهم الحياد وخطر انهيار المعرفة

الذكاء الاصطناعي التوليدي حلقة تغذية راجعة تُسرّع “انهيار المعرفة”

شدد الكاتب على أن هذا الانحياز ليس جديداً، بل هو امتداد لتاريخ طويل من الهيمنة المعرفية التي جعلت المعرفة الغربية معياراً عالمياً، وأقصت المعارف المحلية التي لم تُوثّق أو لم يُعتَرف بها مؤسسياً، موضحاً أننا ندخل حلقة تغذية راجعة تُعيد إنتاج الأفكار السائدة وتُسرّع “انهيار المعرفة” مع انتشار المحتوى المولّد بالذكاء الاصطناعي، حيث تتضاءل الرؤى البديلة وتُمحى الخبرات المتجذرة في المكان واللغة.

الخسارة ليست محلية بل عالمية

يخلص التحقيق إلى أن المشكلة ليست تقنية فحسب، بل هيكلية، إذ يعزز الذكاء الاصطناعي عملية تهميش بدأت منذ زمن بعيد.

والخسارة هنا ليست محلية، بل عالمية، لأن اختفاء المعرفة الأصلية يعني خللًا في شبكة الفهم التي تحفظ توازننا البيئي والإنسانية، وحسب رأيه فإن الذكاء الذي نحتاجه حقاً هو القدرة على تجاوز التسلسل الهرمي الذي يقرر أي معرفة تستحق البقاء، مختتماً تحقيقه بالقول: قد لا أكون مقتنعاً بخلطات والدي العشبية، لكنني أتعلم أن الاعتراف بجهلي قد يكون أنسب بداية.

المصدر: الجارديان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى