قطاع الاتصالات في سوريا .. تحولات الماضي والحاضر تتحكم بجودة الحياة الرقمية المستقبلية
العمل جارٍ لتأهيل الشبكات وتوسيع نطاق الخدمات بالإمكانيات الذاتية والتشبيك مع المجتمع الدولي

شهد قطاع الاتصالات في سوريا تحولات كبيرة على مدى السنوات الماضية، حيث تعرضت البنية التحتية للتدمير بسبب الأوضاع الأمنية والتحديات الاقتصادية، وعرقلت العقوبات الاقتصادية والقيود التقنية خطط إصلاحها، ما أثر سلباً على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين وعطّل انضمامهم الفعال إلى المجتمع العالمي الرقمي.
ومع التقدم في إعادة الإعمار، تعمل الجهات الحكومية المعنية حالياً على إحداث تحول إيجابي وملموس من خلال تأهيل الشبكات ومراكز الاتصال، وتوسيع نطاق الخدمات، بالاعتماد على الإمكانيات الذاتية والتشبيك مع المجتمع الدولي رقمياً، بهدف تجاوز العقبات والتحديات التي تواجه تطوير هذا القطاع وتحسين جودة الحياة الرقمية في البلاد.
أبرز المشكلات التي يواجهها قطاع الاتصالات في سوريا
يعاني قطاع الاتصالات في سوريا من أزمة ناجمة عن كتلة متشابكة من الأسباب التاريخية والموضوعية.
وتشير صحيفة اندبندنت العربية إلى أن قطاع الاتصالات في سوريا كان حكومياً بالكامل في تسعينيات القرن الماضي تديره “المؤسسة العامة للاتصالات”، ومع بداية الألفية الجديدة بدأت الحكومة بخصخصة القطاع، من خلال منح شركتين تراخيص تشغيل خدمات الهاتف المحمول، الأولى “سيريتل” التي تأسست عام 2000، والثانية “أربيا” التي عملت حتى عام 2007 قبل أن تستحوذ عليها شركة “أم تي أن” والتي بدورها أعلنت نيتها الخروج من السوق السورية عام 2020 بسبب ما قالت إنها “تحديات تشغيلية ومالية”، ليتم تعيين حارس قضائي على الشركة لاحقاً.
ولفتت الصحيفة إلى أن سوريا كانت تعتمد طوال تلك السنين على شبكة نحاسية قديمة لتقديم خدمات الإنترنت، ما أدى إلى بطء في السرعات ورداءة في الخدمة.
لاحقاً وقعت أضرار بالشبكات والمرافق الحيوية جراء الاعتداءات والأعمال التخريبية والتعديات المرافقة للأحداث السياسية والأمنية التي تعانيها البلاد منذ عام 2011، ثم تتالت الأضرار نتيجة العقوبات الدولية، وارتفاع تكاليف التشغيل والصيانة بسبب القيود المفروضة على استيراد المعدات المتطورة والتضخم، لتتفاقم المشكلة أكثر مسببة عدم استقرار خدمة الإنترنت بسبب محدودية الربط الدولي وقيود الوصول إلى التقنيات الحديثة.
كل ذلك أدى إلى ضعف الاستثمارات في قطاع الاتصالات ونشوء تحديات تقنية ضخمة مثل الحاجة إلى تحديث الشبكات، وإدخال تقنيات الجيل الخامس، وتعزيز الحماية الإلكترونية دون توفر ظروف مؤاتية وبيئة صحية لتطبيق أي حلول.
وعلى إثره تبعثرت خدمات الاتصالات، وتجلت فوارق المعاناة بين المواطنين الذين يعيشون “في رعاية المؤسسات الوطنية” لكن يختنقون بضعف خدمات الاتصالات، وأولئك الذين يعيشون خارج تلك الرعاية لكن ينعمون بخدمات اتصالات أفضل بكثير.
ووفقاً لصحيفة اندبندنت كانت خدمات الشركات السورية لا تصل الى المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام السياسي الذي كان قائماً حتى 8 كانون الأول 2024، لذلك لجأت إلى حلول بديلة، واعتمد المواطنون في الشمال السوري على خطوط شركتي “تركسل” و”ترك تليكوم” التركيتين، وفي مدينة إدلب كانت هناك شركة “سيريا فون”، أما في شمال شرقي البلاد، جرى الاعتماد على شركة “آرسيل” التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وكنتيجة موضوعية لما سبق حلت سوريا في المرتبة الأخيرة عربياً في نهاية عام 2022، على مستوى سرعة التنزيل عبر شبكة الإنترنت الخليوية، بمعدل بلغ 14.7 ميغابايت في الثانية، حسب الإصدار الأخير من مؤشر “سبيد تيست” لديسمبر (كانون الأول) 2022 الذي تصدره شركة “أوكلا” لتقييم سرعة الإنترنت حول العالم.
الإجراءات الحكومية الحالية لمواجهة التحديات
بعد 8 كانون الأول 2024، حللت الجهات الحكومية السورية الواقع الراهن لقطاع الاتصالات في البلاد والبنية التحتية المشغلة له، ولإيجاد مخرج واقعي، سلكت مسارين متوازيين، داخلي وخارجي، بهدف تسريع عمليات إعادة تأهيل البنية التحتية وتأمين وصول الخدمات الرقمية.
1-الإجراءات الداخلية
مشاريع تعزيز استقرار الخدمة
نفذت وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات مشاريع على الأرض لتعزيز استقرار الخدمة، وقدمت تسهيلات لجذب الشركات للاستثمار في مجال الاتصالات والتزويد بخدمات الانترنت، ومؤخراً تم ترخيص خمس شركات مزودة للإنترنت في إطار خطة لمنح تراخيص لـ 20 شركة أخرى خلال فترة قياسية.
دعم البنية الرقمية
تم تخفيض أجور استخدام الطيف الترددي لشبكات Wi-Fi outdoor في المجال /5/ جيجا هرتز بنسبة 80% للسنة الأولى من الترخيص، وسط توقعات أن يدعم هذا التخفيض التحول الرقمي وانتشار خدمات الإنترنت في الأماكن العامة.
دعم الابتكار
ألغت الوزارة التراخيص والرسوم المفروضة سابقاً على تقديم الخدمات عبر التطبيقات الإلكترونية، بهدف تحفيز الابتكار الرقمي، وتحسين كفاءة العمل الحكومي، وتمكين روّاد الأعمال المبدعين من إطلاق مشاريعهم بسهولة.
وأوضح وزير الاتصالات وتقانة المعلومات عبد السلام هيكل أن إلغاء الرسوم يهدف إلى “تخفيف الأعباء المالية عن الشركات الناشئة، وخلق بيئة ديناميكية لريادة الأعمال، بما يعزز المنافسة المحلية والإقليمية، ويفتح المجال أمام الأفكار الجديدة للتطور بسرعة”.
التواصل مع الجالية السورية في الخارج
بادرت وزارة الاتصالات إلى تعزيز التعاون التقني مع الجاليات السورية في الولايات المتحدة وبريطانيا وكذلك المبادرات الريادية للاستفادة من الخبرات والكفاءات السورية في المهجر في مشاريع إعادة الإعمار وخلق فرص استثمارية جديدة تدعم نمو الاقتصاد الوطني وتعزز قطاع الاتصالات والتكنولوجيا.
من بين هذه المبادرات “Damascus Silicon City”، وهو مشروع يهدف إلى تعزيز التعاون والابتكار في سوريا من خلال التعاون مع وادي السيليكون ومنظمات دولية مثل منظمة بنفسج.
إطلاق تجريبي لخدمات الجيل الخامس 5G
تم أيضاً إطلاق تجريبي لخدمة الجيل الخامس (5G) يوم 6 أيار الماضي في مناطق محددة بالعاصمة دمشق بهدف تقييم الأداء قبل التوسع.
2-التشبيك الدولي
على مدى الشهور الماضية كانت سوريا على موعد مع دبلوماسيين ومسؤولين ممثلين لعدد من الدول والشركات المتخصصة، بهدف التعاون استقطاب الدعم والشراكات وتعزيز البنية التحتية الرقمية والتحول الرقمي والاستفادة من أحدث الابتكارات العالمية.
شملت المباحثات ممثلي شركات اتصالات تركية وقطرية، وممثلين عن حكومات تركيا، قبرص، فرنسا، ألمانيا، البحرين، قطر، السعودية، الأردن، بريطانيا، وغيرها.
وركزت على تطوير البنية التحتية وتحديث تجهيزات الربط الضوئي، تحسين جودة الاتصالات، دعم ريادة الأعمال والذكاء الاصطناعي، وتعزيز الربط الدولي عبر مشاريع استراتيجية مثل “سيلك لينك” و” اوغاريت2″ إضافة إلى إمكانيات التعاون في مجالات الاستشارات، التدريب، دعم ريادة الأعمال، واستكشاف الشراكات الاستثمارية لتعزيز التكامل التقني بين سوريا والدول المشاركة.
ماهي أهم مشاريع الاتصالات الاستراتيجية في سورية اليوم؟
طورت المؤسسات الحكومية السورية خلال الفترة الماضية مشاريع استراتيجية مثل سيلك لينك وأوغاريت2 لتحسين الاتصال الدولي وتوفير حلول رقمية أكثر كفاءة، وجعل سوريا مركزاً إقليمياً لنقل البيانات، وهي ترى فيهما اليوم فرصتها في النهوض من جديد بواقع قطاع الاتصالات.
وهي تتطلع إلى المزيد من الفرص بعد اعلان رفع العقوبات الامريكية والأوروبية الذي تم في منتصف أيار الماضي.
مشروع سيلك لينك: خطوة استراتيجية نحو تطوير البنية الرقمية في سوريا
يهدف مشروع سيلك لينك الذي أطلق في 15 أيار الماضي إلى تطوير شبكة الألياف الضوئية في سوريا بسرعة تصل إلى 100 تيرابت/الثانية، ما يعزز جودة الإنترنت ويحول البلاد إلى مركز رقمي إقليمي لنقل البيانات والاتصال الدولي.
ويمتد المشروع على مسافة تقديرية 4,500 كيلومتر من الألياف الضوئية تشمل الربط الكامل بين المدن الرئيسية دمشق وحلب مع مراكز تحويل في تدمر وفي المنطقتين الجنوبية والشرقية بالإضافة إلى نقطة وصول الكابلات البحرية في طرطوس.
ويتضمن المشروع تفعيل نقاط اتصال إقليمية مع الدول المجاورة العراق والأردن ولبنان وتركيا، بالإضافة إلى توفير مسار بري جديد يربط أوروبا بآسيا.
وسيتم تمويله ضمن نظام PPP بالشراكة بين القطاعين العام والخاص.
ويعتبر وزير الاتصالات أن هذا المشروع “سيجعل سوريا ممرا استراتيجيا لحركة البيانات بين آسيا وأوروبا”، ما يفتح آفاقا جديدة للاستثمار في الحوسبة السحابية ومراكز البيانات، ويدعم حلولاً بديلة للمسارات البحرية القائمة، مشيرا إلى أن المشروع يعيد الدور التاريخي لسوريا كمحور عالمي للتبادل الرقمي.
ولايزال المشروع في مرحلة طرح طلب معلومات للشركات الإقليمية والعالمية لتقديم حلول في بناء الشبكات والمراكز الرقمية، وجمع المعلومات تمهيدًا لبدء المفاوضات مع الشركات المختارة، واليوم تم تمديد موعد إغلاق طلب المعلومات حتى تاريخ 16 تموز القادم، وذلك استجابةً لطلب عدد من كبرى الشركات الإقليمية والعالمية المعنية وفقاً لوكالة سانا للأنباء.
واليوم أعلنت الوزارة في بيان على صفحتها في فيسبوك إطلاق طلب معلومات لمشروع (برق نت) لتطوير بنية الألياف الضوئية للمنازل والمكاتب في سوريا، مشيرة إلى أن برق نت سيتصل مباشرة بالشبكة الوطنية (سيلك لينك) عند إنجازها.
وأوضحت الوزارة أن المشروع سيبدأ تنفيذه خلال الأسابيع القادمة مع السعي لإنجاز عدة مناطق قبل نهاية 2025 من خطة زمنية لربط 85% من البيوت والمؤسسات في سورية خلال سنتين.
مشروع أوغاريت 2 خطوة أولى لتعزيز الاتصال الرقمي
أطلقت المرحلة الأولى من هذا المشروع في 1 أيار الماضي بالتعاون مع شركة UNIFI الأمريكية وهيئة الاتصالات القبرصية CYTA، وهو مرخص من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية OFAC بوزارة الخزانة الأمريكية.
ويهدف إلى ترميم وتحديث الاتصال الرقمي الدولي لسوريا عبر قبرص، حيث يركز في مرحلته الأولى على تحديث معدات المحطات الطرفية بتمويل (CYTA)، وإشراف تقني من شركة UNIFI وفق المعايير الدولية، ما يسهم في توسيع الاتصال العالمي بالإنترنت وتحسين جودة الشبكة الرقمية.
ومن المتوقع أن يسهم المشروع في زيادة كبيرة بسعة الإنترنت، وتحسين سرعة الإتصال، وتمهيد الطريق لمراحل لاحقة تشمل تركيب كابل أوغاريت 2 البحري الجديد، ما يتيح فرصا أوسع للنمو التكنولوجي والاقتصادي.
ويأتي مشروع أوغاريت 2 كجزء من رؤية استراتيجية تهدف إلى بناء بنية تحتية متطورة تدعم التحول الرقمي على المدى الطويل، وتعزز اندماج سوريا في النظام العالمي للاتصالات، مما يفتح المجال أمام فرص واسعة للنمو الاقتصادي والتكنولوجي.
ويرى الرئيس التنفيذي لشركة الاتصالات السورية غسان عكاش في تصريح نقلته وكالة سانا للأنباء أن تحديث المعدات الطرفية ضمن المرحلة الأولى من المشروع يمثل خطوة جوهرية نحو تطوير الاتصال الدولي بزمن وصول منخفض، الأمر الذي يعزز موثوقية الخدمات الرقمية داخل سوريا.
رأي خبير
من جهته يرى الخبير في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات نضال فاعور استطلعت رأيه منصة بلوك تيك أن قطاع الاتصالات يعتمد بشكل أساسي على التحديث المستمر للبنية التحتية، سواء في الشبكات أو الخدمات أو المعدات.
ويشير إلى أن الانتقال بين أجيال الاتصالات أصبح أسرع من أي وقت مضى، حيث شهدنا تطوراً متلاحقاً من أنظمة GSM و 2G وصولاً إلى 5G، الذي يوفر سرعات فائقة وزمن استجابة منخفض، ما يعزز كفاءة الاتصال وجودة البيانات.
ويوضح فاعور أن سوريا اعتمدت سابقاً على البنية التحتية المقدمة من الهيئة الناظمة للاتصالات للشركات المشغلة مثل MTN و سيريتل، إلا أن هذه البنية لم تكن كافية لتقديم خدمات اتصالات بمستوى مقبول، نظراً لاعتماد الشركات على ما توفره الهيئة دون تطوير إضافي يلبي احتياجات المستخدمين.
ويرى فاعور أن اعتماد وزارة الاتصالات حالياً على الألياف الضوئية لتحديث البنية التحتية لا يشكل حلاً شاملاً لمشكلات الاتصالات في سوريا، مشيراً إلى أن تحديث الشبكة وحده لا يكفي لتحقيق نقلة نوعية حقيقية في القطاع، بل يتطلب استراتيجية أوسع تشمل الاستثمار في التكنولوجيا المتطورة والبنية الرقمية المتكاملة.
يرى الخبير أن التحديات الأساسية التي واجهتها منظومة الاتصالات في سوريا كانت تتمثل في المخدمات ومراكز الخدمة (المقاسم) المنتشرة على الأراضي السورية، ما أثر على كفاءة الاتصال وجودة الخدمات المقدمة، وبرأيه يكمن الحل اليوم في تأسيس بنية تحتية رقمية متكاملة تشمل:
- خزائن بيانات متطورة (Data Services) توفر سرعة معالجة وأماناً أعلى.
- معدات حديثة لجدران الحماية (Firewall) وشركات متخصصة في الأمن السيبراني (Cyber Security) لضمان حماية البيانات.
- شبكات وأنظمة اتصال من شركات عالمية مثل سيمنس ، سيسكو ، وهواوي بأحدث إصداراتها.
- نقاط توزيع عالية الدقة عبر منظومات الألياف الضوئية، إضافة إلى مستقبلات ومرسلات في جميع المحافظات.
- توزيع مراكز البيانات إلى مواقع خاصة تديرها شركات عالمية لضمان استقرار الخدمة وكفاءتها.
- التحول من ADSL إلى شبكات البرودباند اللاسلكي، لتجاوز قيود تمديد الكابلات الضوئية، والتي يرى أنها “لن تكون حلاً طويل الأمد”.
وفي سياق الحلول الممكنة، يشير فاعور إلى أن البحث عن شركات تستثمر في هذه الخطوات كل على حدة قد يكون الخيار الأمثل لمعالجة المشكلات التي تواجه الاتصالات في سوريا.
كما يلفت إلى إمكانية الاستفادة من تجربة شركات إقليمية ودولية، مثل اتصالات مصر وموبايلي السعودية اللتين أبرمت اتفاقية لإنشاء أول كابل بحري سعودي-مصري عبر البحر الأحمر لتعزيز الاتصال الرقمي بين البلدين مختتماً حديثه بالقول أن الاستثمار في تطوير الاتصالات والبنية الرقمية في سوريا ليس فكرة حديثة، بل كان دائماً هدفاً للشركات الكبرى في وادي السيليكون.
المصادر
وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات السورية
الوكالة العربية السورية للأنباء سانا