هل يهدد الذكاء الاصطناعي فن الكوميديا؟
تساؤلات عن قدرة الذكاء الاصطناعي على كتابة النكات وإنتاج محتوى كوميدي.

مع التوسع الهائل في قدرات الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الأخيرة، ظهرت تساؤلات جدية حول مدى قدرة هذه النماذج على إنتاج محتوى فكاهي قادر على إضحاك الجمهور مثلما يفعل البشر.. فهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكتب “ستاند أب كوميدي” أو نكات مضحكة حقاً؟
شهدت السنوات القليلة الماضية قفزات واسعة في استخدامات الذكاء الاصطناعي، فلم تقتصر تطبيقاته على المجالات التقنية والعلمية كالبرمجة وعلوم البيانات، بل امتدت إلى مجالات إبداعية وإنسانية مثل تأليف القصص وكتابة النصوص الأدبية والصحفية.
ومع هذا التطور، بدأ خبراء الكوميديا يطرحون تساؤلات عميقة عن قدرة الذكاء الاصطناعي على كتابة النكات وإنتاج محتوى كوميدي فعَّال.
من الكوميديا البشرية إلى الكوميديا الآلية
أحد أبرز هؤلاء هو الكاتب الكوميدي الأمريكي الشهير “جو توبلين” الذي عمل إلى جانب رموز الكوميديا مثل “ديفيد ليترمان” و”جاي لينو”، ودرَّس كتابة الكوميديا لسنوات، حيث قررخوض تجربة غير تقليدية للإجابة عن هذا التساؤل، من خلال تطوير أداة ذكاء اصطناعي تحمل اسم “ويت سكريبت” (Witscript)، وهي منصة قائمة على نموذج لغوي ذكي، تتيح توليد نكات وتعليقات ساخرة انطلاقاً من عناوين الأخبار أو نصوص وصور يزوِّد بها المستخدم النظام.
تُعرض هذه الأداة ضمن تطبيق ويب مقابل اشتراك شهري منخفض، ما يجعلها متاحة لاختبار قدرات الذكاء الاصطناعي في توليد الفكاهة بشكل منتظم.
اختبار عملي: من يُضحِك الجمهور أكثر؟
لتقييم فعالية الأداة، دخل توبلين في تحدٍّ مباشر مع ذكائه الاصطناعي في تجربة امتدت ثلاثة أيام أُنتِج خلالها مجموعة من النِكات من قبل الإنسان والآلة حول ثمانية مواضيع إخبارية مختلفة، وبعد ذلك، عُرضت هذه النكات على جمهور حيٍّ في مدينة لوس أنجلوس دون الكشف عن هوية المؤلف، وسُجِّلت ردود فعل الجمهور لقياس مدى فاعلية كل طرف في إثارة الضحك.
لتعزيز الطابع العلمي للتجربة، تعاون توبلين مع عالم الأعصاب والكوميديا “أوري أمير”، الذي ساهم في تحليل الاستجابات النفسية للجمهور.. وكانت النتيجة مُفاجِئة: النكات التي كتبها الذكاء الاصطناعي حققت تأثيراً مُقارباً للغاية لتلك التي كتبها “توبلين” بنفسه.
عندما يُقلِّد شات جي بي تي “ذا أونيون”
في تجربة موازية، أجرى أحد الباحثين في علم النفس الاجتماعي، من جامعة جنوب كاليفورنيا، اختباراً مختلفاً، حيث استخدم نموذج “شات جي بي تي 3.5” وطلب منه كتابة مقالات ساخرة بأسلوب مجلة “ذا أونيون” (The Onion) الشهيرة، بعد تزويده بأكثر من 50 عنواناً من المجلة كمصدر إلهام.
جاءت النتائج مبهرة، إذ تمكَّن النموذج من تقليد الأسلوب الساخر للمجلة بدقة لافتة، ما يُؤكد قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم البنية الأسلوبية للفكاهة وتكرارها بشكل مُقنِع.
هل يمكن تقليد الوعي والسياق؟
رغم هذه النجاحات، هناك جدل واسع بين الخبراء حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يفهم فعلاً حس الدعابة، أم أنه فقط يُقلِّد أنماطاً لُغوية محددة من دون إدراك للسياق أو الوعي الثقافي الذي يُعدُّ حجر الأساس في النكتة.
من وجهة نظر الباحث في الذكاء الاصطناعي واللغويات “تريستان ميلر”، فإن القدرة على إنتاج الفكاهة تُعدُّ إحدى أصعب وأعمق المهارات اللُغوية البشرية، كما يَعتبِر “ميلر” أن محاولة تعليم الآلة إنتاج نكات ناجحة هي محطة هامة في سعي الذكاء الاصطناعي لمحاكاة التجربة البشرية بكل تعقيداتها.
هل يُعيد الذكاء الاصطناعي إنتاج الصور النمطية السلبية؟
رغم الإثارة التي تخلقها هذه التجارب، يُعبِّر العديد من العلماء عن مخاوف حقيقية من انحياز الذكاء الاصطناعي عند توليد المحتوى الفكاهي، خاصةً أنه يتعلم من بيانات الإنترنت التي تحتوي على كثير من الصور النمطية أو النكات ذات الطابع العنصري، أو الجنسي، أو التمييزي.
بهذا الصدد، تُحذِّر مجلة “سميثسونيان” من أن الذكاء الاصطناعي قد يُصنِّف بعض النكات غير اللائقة على أنها ملائمة، فقط لأنها شائعة في بيانات تدريبه، ما يجعله عرضة لإعادة تدوير محتوى مسيء دون قصد.
من الجدير بالذكر أن تجربة “ويت سكريبت” لم تعتمد على كل ما تُولِّده الأداة بشكل عشوائي، إذ قام توبلين، بصفته كوميدياً محترفاً، باختيار النكات الأفضل من بين عدد كبير أنتجته الأداة، ما يدل على أن العنصر البشري لا يزال ضرورياً لتقييم جودة النكتة.
النكتة: أكثر من مجرد كلمات
من جانبه، يرى الباحث “كريستيان هيمبلمان” المتخصص في اللغويات الحاسوبية بجامعة شرق تكساس أن إنتاج نكتة مضحكة لا يقتصر على صياغة لغوية جيدة، بل يتطلب نيةً حقيقية من المؤلف في اللعب بالمعاني والتفاعل العاطفي مع الجمهور.. هذا العنصر العاطفي تحديداً، حسب قوله، لا يمكن برمجته ببساطة داخل نموذج لغوي.
أما “غورينز”، فرغم إعجابه بقدرة “شات جي بي تي” على إنتاج نكات أحياناً، إلا أنه يؤكد أن النموذج لم يُصمم أساساً لأغراض الكوميديا، وإنما لتوليد نصوص عامة بناءً على توقع الكلمات التالية، وهو لا يملك إحساساً حقيقياً بالعواطف ولا فهماً حقيقياً لما يجعل الناس تضحك.
مستقبل الكوميديا المصنوعة بالذكاء الاصطناعي
مع التسارع الكبير في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، لا يستبعد الباحثون إمكانية ظهور أنظمة ذكية قادرة على إنتاج نكات احترافية بالكامل، خاصة عند دمج النصوص مع مشاهد مرئية وأصوات بشرية اصطناعية تضيف طبقات من السياق البصري والصوتي للنُكتة، الأمر الذي قد يُقرِّب الذكاء الاصطناعي من منافسة الفنان الكوميدي البشري الحقيقي.
فهل سنصل قريباً إلى زمن يُقدَّم فيه عرض “ستاند أب كوميدي” كامل بواسطة روبوت دردشة ذكي؟ أم أن ستبقى روح الفكاهة الحقيقية حِكراً على البشر مهما تطورت الآلة؟
المصادر: