مقالاتأجهزة الواقع الافتراضيإنترنت الأشياء (IoT)الذكاء الاصطناعي

المتحف المصري الكبير: نبض التاريخ بتقنيات المستقبل

يستخدم المتحف تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء

في قلب القاهرة، وعلى مرمى حجر من أهرامات الجيزة، يقف المتحف المصري الكبير شامخًا كأكبر متحف أثري في العالم مخصص لحضارة واحدة وهي الحضارة المصرية القديمة.

هذا الصرح الثقافي الذي تم تدشينه قبل أيام بحفل حضره رؤساء وملوك وزعماء دول عديدة، وافتتح بواباته للزوار اعتباراً من اليوم 4 نوفمبر 2025، يعد شاهداً حياً على عبقرية الإنسان القديم وإبداع الإنسان المعاصر الذي أعاد صياغة الحضارة والتراث بلغة المستقبل.

هو ليس مجرد مبنى يحتضن عشرات الآلاف من القطع الأثرية الصماء، بل مساحة شاسعة تتلاقى فيها الأصالة التاريخية بالإبهار التقني وخوارزمياته التي تمكنت من تحويل التماثيل الصامتة إلى رواة قصص ناطقة تتحدث بلغات عديدة وتخاطب الأجيال الرقمية على امتداد الجغرافيا في العالم.

المساحة الإجمالية للمتحف المصري الكبير، الذي استمر بناؤه عقدين من الزمن، تتجاوز 500 ألف متر مربع، منها أكثر من 92 ألف متر مربع مخصصة للعرض المتحفي.

وتشمل زيارته قاعات الملك توت عنخ آمون، قاعات العرض الرئيسية، البهو العظيم، الدرج العظيم، متحف مراكب خوفو، المنطقة التجارية، والحدائق الخارجية، في تجربة استثنائية تجمع بين عراقة التاريخ وروعة التصميم المعاصر.

كما تتضمن متحفاً للأطفال، مركز الفنون والحرف وهو مساحة حيوية تجمع بين الحرف التراثية والفن المعاصر، إضافة إلى مركز تعليمي تفاعلي لجميع الأعمار للاستكشاف وتحفيز التفكير.

وفي قاعات متحف مصر الكبير وأروقته، لا تُعرض القطع الأثرية النفيسة في واجهات زجاجية صامتة، بل تُستعاد بكل وهجها عبر تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، ليندمج الماضي بالحاضر ويصبح المكان مختبراً رقمياً يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتراث.

وقد تمكنت وسائط التكنولوجيا المتنوعة من تحويل دورة الزمن في المتحف المصري الكبير إلى ما يعرف عالمياً باسم “المتحف الحي” الذي يتفوق على حدوده كمبنى أصمّ، ليصبح كائناً متفاعلاً يتجاوز الحواجز التقليدية بين الزائر والمحتوى الثقافي، ويحول الزيارة إلى تجربة شخصية غامرة.

ما هو “المتحف الحي”؟

المتحف الحي هو نمط جديد من المتاحف يمثل ثورة في التعليم الثقافي، حيث تدمج بين العرض الفني والتقنيات الرقمية لتقديم تجربة شخصية ممتعة وغنية بالمعلومات ومحفزة للزوار خاصة للأطفال والطلاب.

ويوظف هذا النمط من المتاحف تقنيات مثل الواقع الافتراضي، الذكاء الاصطناعي، والواقع المعزز إضافة إلى التخزين السحابي ليقدم المحتوى الثقافي التاريخي بطريقة تفاعلية مخصصة ويتحول بذلك إلى مساحة تعليمية وترفيهية نابضة بالحياة.

المتحف المصري الكبير .. تجربة الزائر الذكية

يعد الزائر للمتحف المصري الكبير جزءاً من سردية تفاعلية تنبض بالذكاء الاصطناعي، وتفتح بوابات الزمن عبر الواقع الافتراضي، حيث يقدم المتحف تجربة زائر ذكية متصلة، تبدأ من لحظة الحجز عبر تطبيق الهاتف المحمول، وتستمر داخل القاعات عبر الرموز الذكية (QR)، الشاشات التفاعلية، والمساعدات الرقمية.

ويمكن للزائر اختيار لغته ومستوى معرفته واهتماماته، ليحصل على محتوى مصمم خصيصاً له، كما تجيب الروبوتات الذكية عن الأسئلة وتروي القصص وتقدم توصيات بناءً على سلوك الزائر داخل المتحف.

إلى جانب ذلك، تُستخدم تقنيات التعرف على الصور والنصوص القديمة لتحليل القطع الأثرية، وتقديم معلومات دقيقة حول المواد والزخارف والذاكرة، مما يُسهم في جهود الترميم الرقمي ويعزز الفهم العميق للسياق الثقافي.

المتحف المصري الكبير

الهولوغرام والممرات الرقمية

في مدخل المتحف، يجد الزائر شاشة كبيرة تتيح له التقاط صورة تذكارية مع أي قطعة أثرية يختارها، تُرسل إليه عبر البريد الإلكتروني مجاناً.

ويضم المتحف تسعة ممرات عرض رقمية مجهزة بشاشات ضخمة، تعرض أجواء تفاعلية تحاكي طبيعة الآثار المعروضة في كل صالة.

كما تُعرض مجموعة من القطع الأثرية المكتشفة في مقبرة توت عنخ آمون داخل صالتين تبلغ مساحتهما 7 آلاف متر مربع، باستخدام تقنيات الهولوغرام، ما يتيح عرض آثار تظهر للمرة الأولى بطريقة تفاعلية ثلاثية الأبعاد.

القطع الأثرية تتحدث بلغة الواقع المختلط

ولا يقف الأمر عند مشاهدة الزائر للمقتنيات الأثرية من خلف الزجاج، بل يُدعى إلى خوض تجربة غامرة تنقله فعلياً إلى قلب الحضارة الفرعونية.

فعبر تقنيات الواقع الافتراضي (VR)، يمكن للزائر الدخول إلى المعالم والأوابد الأثرية كالمدافن والمعابد القديمة وكأنه يعيش الحدث داخل الزمن الفرعوني، متجولاً بين الشخوص الحجرية والأعمدة والنقوش، مستشعراً خصوصية المكان وتفاصيله الدقيقة.

أما الواقع المعزز (AR)، فيقدم طبقة إضافية من التفاعل عبر تطبيقات الهاتف المحمول، حيث يمكن للزائر توجيه كاميرا هاتفه نحو أي قطعة أثرية ليظهر أمامه محتوى ثلاثي الأبعاد يعيد بناء شكلها الأصلي، أو يشرح وظيفتها في الحياة اليومية القديمة.

هذه التقنية لا تكتفي بعرض المعلومات، بل تخلق تفاعلاً بصرياً وعاطفياً يجعل الزائر يشعر وكأنه جزء من القصة.

ولتعزيز هذا الانغماس، يوظف المتحف تقنيات الواقع المختلط التي تتيح للزائر الشعور بالهواء والرمال المحيطة بالآثار، ورؤية التفاصيل بدرجة قرب ووضوح لم تكن ممكنة سابقاً.

ويعتمد المتحف في ذلك على نظارات Hololens 2 من شركة مايكروسوفت، لتقديم تجربة متكاملة تجمع بين الواقع الافتراضي والمعزز والمختلط، في عرض لا يكتفي بالمعلومة بل يخلق تجربة حسية متكاملة.

تجارب افتراضية تحاكي التاريخ

من أبرز التجارب التي يقدمها المتحف عبر الواقع الافتراضي، تجربة بناء الأهرامات والعيش في تلك الحقبة، حيث يشهد الزائر كيف كانت تتم عمليات النقل والرفع والتصميم.

كما يمكنه استكشاف مدفن توت عنخ آمون كما اكتشفها عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر عام 1922، في محاكاة دقيقة للبعثة الاستكشافية.

الذكاء الاصطناعي: الدليل السياحي الجديد

استبدل المتحف المصري الكبير تجربة الدليل السياحي التقليدي بمنظومة ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن للزائر فحص أي قطعة أثرية عبر التطبيق الخاص بالمتحف، ليحصل على معلومات تفصيلية عنها، تظهر بلغات متعددة، ويمكن التفاعل معها مباشرة لطرح الأسئلة والاستفسارات.

تقدم هذه المنظومة توصيات مخصصة بناءً على سلوك الزائر، وتوفر ترجمة فورية للمحتوى، مما يجعل التجربة أكثر شمولاً وتنوعاً.

كما تُستخدم خوارزميات التعرف على الصور والنصوص القديمة لتحليل القطع الأثرية، وتقديم معلومات دقيقة حول المواد، الزخارف، والتاريخ، مما يُسهم في جهود الترميم الرقمي ويعزز الفهم العميق للسياق الثقافي.

المتحف كمنصة تعليمية تفاعلية

لا يقتصر دور المتحف على العرض، بل يتحول إلى فضاء تعليمي نابض بالحياة يجمع بين الترفيه والمعرفة، ويقدّم بروح العصر، مما يجعله منصة تعليمية متكاملة.

ويمكن للزائر المشاركة في ورش عمل وتجارب تفاعلية مثل تجربة ارتداء الزي الفرعوني، تعلم الكتابة بالهيروغليفية، ومحاكاة الحياة اليومية في مصر القديمة.

تجارب رقمية مخصصة للأطفال

خصص المتحف مركزاً للابتكار للأطفال، يقدم مجموعة من التجارب الرقمية المصممة خصيصاً لهم، مثل بناء الأهرامات، المشاركة في بعثات استكشافية، وتجربة الحياة الفرعونية من الزراعة إلى التحنيط.

ولأجل ذلك، يضم المركز طاولات تفاعلية ذكية تتيح للأطفال التفاعل مع المحتوى بطريقة مرئية وتجريبية، مما يعزز الفضول ويحفز التفكير.

بنية تحتية رقمية متكاملة

هذا الالتقاء بين الحضارة المصرية القديمة والتقنيات الذكية هو نتاج شراكات عدة بين إدارة المتحف وعدد من الكيانات والشركات المتخصصة في إدارة المتاحف، أبرزها:

شراكة لنظام بيئي ذكي متكامل

تم الإعلان مطلع عام 2025 عن شراكة بين فودافون مصر وشركة ليجاسي وهي المسؤولة عن تشغيل وإدارة خدمات المتحف.

وبفضل هذه الشراكة، تحول المتحف المصري الكبير إلى كيان رقمي موحد يعمل ضمن نظام بيئي ذكي يربط بين الزائر، المحتوى، والخدمات اللوجستية.

وتم ذلك عبر منصة رقمية مركزية تدير العمليات التشغيلية للمتحف، بدءاً من الإضاءة، مروراً بالتذاكر والمصاعد، وصولاً إلى مواقف السيارات وتدفق الزوار، معتمدة على بنية تحتية رقمية متكاملة لتقديم تجربة زائر متصلة، مخصصة، وآمنة.

حلول فودافون مصر التقنية

فودافون مصر توفر للمتحف والزائر مجموعة من الحلول الرقمية المتقدمة تشمل:

– إدارة ذكية للطاقة لضمان كفاءة التشغيل وتقليل الاستهلاك.
– أنظمة مراقبة وتحكم بيئي للحفاظ على القطع الأثرية من التلف الناتج عن العوامل الجوية.
– خدمات اتصال فائقة السرعة تدعم التطبيقات التفاعلية والمحتوى الرقمي داخل المتحف.
– منصة تشغيل مركزية تعتمد على تقنيات IoT لربط الأنظمة الداخلية وتحليل البيانات لحظياً.

هذه البنية الذكية تُمكّن الزائر من:

– استخدام تطبيقات الهاتف المحمول لحجز التذاكر، التنقل داخل المتحف، واستكشاف المحتوى التفاعلي.
– التفاعل مع القطع الأثرية عبر تقنيات الواقع المعزز والرموز الذكية (QR).
– الاستفادة من خدمات الترجمة الفورية والمساعد الرقمي داخل القاعات.
– الوصول إلى محتوى مخصص بناءً على اهتماماته وسلوكه داخل المتحف.

شراكة لإدارة رقمية للمجموعات الأثرية

يضم المتحف المصري الكبير أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تغطي مختلف الحقب التاريخية للحضارة المصرية.

ولإدارة هذا الكم الهائل من المقتنيات، يعتمد المتحف على منظومة FileMaker Pro الرقمية، وفقاً لدراسة أجراها قسم الآثار في جامعة الفيوم، وهذه المنظومة تتيح:

– إدارة رقمية شاملة للقطع الأثرية، بما في ذلك الإضافة، الإزالة، والتعديل.
– تتبع حالة الترميم والعرض لكل قطعة.
– حفظ التفاصيل الدقيقة لكل أثر، بما يضمن دقة التوثيق وسهولة الوصول.

كما تعاونت إدارة المتحف مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) لبناء منظومة رقمية متكاملة تتيح مشاركة الأبحاث، إعارة القطع وتبادل الخبرات مع المتاحف العالمية، مما يعزز من مكانة المتحف كمركز بحثي وثقافي دولي.

شراكة لآليات عرض متطورة وتحكم بيئي دقيق

من أبرز مظاهر التطور التقني في المتحف، وجود أكثر من 122 خزانة عرض متحفية مصممة خصيصاً من قبل شركة Goppion الإيطالية، الرائدة في تجهيزات المتاحف.

وتوفر هذه الخزائن:

– تحكماً كاملاً في البيئة الداخلية لحماية القطع من التلف.
– إضاءة قابلة للتعديل حسب نوع الأثر وظروف العرض.
– أنظمة للتحكم في درجة التلوث والضغط الجوي داخل الخزانة.
– آليات حماية متعددة تضمن سلامة القطع الأثرية على المدى الطويل.

المتحف المصري الكبير: نبض التاريخ بتقنيات المستقبل

في قلب التاريخ ينبض المستقبل

في ختام الرحلة، يكتشف الزائر أن المتحف المصري الكبير كائن حيّ يتنفس التكنولوجيا ويعيد سرد التاريخ بلغة تتلاقى فيها الهيروغليفية مع خوارزميات التعلم العميق وسط وهج الحضارة وتحت سقفٍ تغلفه أسرار تمتد آلاف السنين في الماضي السحيق، وتَلِجُ إلى المستقبل بألغاز مفتوحة على خيارات واحتمالات غير معروفة بعد، ليس آخرها الاقتراب من تحقيق الذكاء البشري فيما يعرف بالذكاء الاصطناعي العام AGI.

فالتكامل بين تقنيات الواقع الممتد، خوارزميات الذكاء الاصطناعي، والتجارب التعليمية التفاعلية، يضع الزائر أمام صرح أثري متكامل يعيد تعريف الرواية، وكيف نعيش التراث في عصر التكنولوجيا.

هذا التحول لا يقتصر على الشكل أو العرض، بل يمتد إلى جوهر فلسفة إدارة المتاحف، حيث تتداخل البنية التحتية الذكية، الإدارة الرقمية، وآليات العرض المتطورة، لتخلق نموذجاً عالمياً لمؤسسة ثقافية تفاعلية ومستدامة تلهم الأجيال الجديدة وتعيد وصل الإنسان بجذوره، وتفتح أمامه أبواب المستقبل من قلب التاريخ.

المصادر
المتحف المصري الكبير
معلومات مباشر
سكاي نيوز عربية
الجزيرة نت
المصري اليوم

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى